سبهان آدم في معرض جديد في "آرت هاوس" بدمشق شيفرة الوجوه المتساقطة من نوافذ الجحيم العالية


سالار أوسي

منذ أكثر من عقدين من الزمن، بدأ سبهان آدم برسم كائنات غير مألوفة في هيئاتها، في أشكالها وحركاتها، وفي بنياتها الجسمانية وعوالمها الداخلية والنفسية، بالنسبة لمعظم من شاهدوا أعماله ورصدوها عبر عشرات المعارض في سوريا والعالم.

سبهان آدم، الذي تلقفته كبريات الصالات التشكيلية في بلدان مختلفة، لم يتخلّ يوماً عن شخوصه (المريبة ) تلك. دافع عنها ـ ولازال ـ بطريقة " شرسة " من خلال عمله اليومي الدؤوب، ليزيد من نسل تلك الشخوص، بوضعياتها المختلفة داخل لوحاته، حتى بات لديه ولدى مقتني أعماله من أشخاص ومؤسسات، " شعب كامل" من هذه الكائنات الهجينة التي تمزج مابين الإنساني والحيواني، في حضورها، وألقها، ونظراتها، وانكساراتها، وعنفها، وغضبها، ووحشيتها، ورأفتها، ومغامراتها.

يعترض سبهان آدم على وصف شخوصه بالقبيحة، أو بالغربية، أو حتى بغير المألوفة. ويعتبر أنها تجسيد، أو تمظهر خاص لكائنٍ لم تألف العين رؤيته بطرق صحيحة، ويحسب أن هذا الكائن موجود بيننا، لكنه يُرى بطريقة مختلفة عما يراه هو.

في عُرف هذا التشكيلي، لابد من أن نعيد تدريب أعيننا على رؤية الأشياء كلها من حولنا. فما يبدو لنا من خلال مشاهداتنا لتلك الأشياء، على المستويين الحسي والملموس، لا تعكس الحقيقة بالضرورة، وعليه لا بد من استدراك وفهم هذا " الخلل" العام لدينا، ومحاولة إعادة صياغة رؤيتنا البصرية لذواتنا، وللأشياء من حولنا، والتي تختلف ـ بالتأكيد ـ عمّا نراه ونعتقده في حساباتنا الجمعية.

" الكائنات السبهانية " هذه، تبدو عنيفة وحنونة في آنٍ معاً. هي ليست قبيحة وليست جميلة، كائنات تمرض وتبكي وتضحك وتتألم وتشيخ وتلعب وتعزف الموسيقا.

ماهو مُضمرٌ فينا مكشوفٌ فيها، وما هو خوفٌ فينا جرأةٌ فيها، وما هو قلقٌ فينا مُطَمْئنٌ فيها، وما هو سريٌّ فينا علنيٌّ فيها، وما هو فرحٌ فينا حزنٌ فيها، وما هو هجين فينا نقيٌ فيها، وما هو ليِّنٌ فينا صلبٌ فيها، وما هو ضعفٌ فينا قوةٌ فيها، وما هو يأسٌ فينا ايمانٌ فيها.

هي شخوصٌ لا تضع مكياجاً، أو مساحيق تجميل على وجوهها وعلى أرواحها، ولا تضبط انفعالاتها وفق مزاج الموروث، ولا تخجل من ( عوراتها ) كما نفعل نحن.

تشوهاتها الخارجية تكاد تطابق تشوهاتنا الداخلية.

شخوصٌ لا تحتاج إلى مرآة، وتقترب في أن تكون مرآة ذواتها، و... مرآتنا.

تسعى إلى أن تلامس جسد الحقيقة/ حقيقتنا التي نغمض أعيننا عن رؤيتها، وإن رأيناها أدرنا وجوهنا غاضبين.

ثمة من يرى في أعمال سبهان آدم، منذ باكورة تجربته التشكيلية، أنها تحاكي واقع الألم الكارثي الذي تعيشه سوريا منذ أكثر من خمس سنوات مضت. ففي إحدى لوحاته القديمة مثلاً، لم يخفِ أو يخجل أحد شخوصه، من أن يبتسم وهو يحمل في يده رأساً مقطوعاً لكائنٍ بشري.

يوافق التشكيلي سبهان آدم، في شكل جزئي، على تقييم هؤلاء لبعض أعماله في الجانب المذكور، ويفسِّر هذا الربط في إطار أشمل. إذ يعتبر أن كائناته هي كائنات عالمية لا تنتمي إلى جغرافية بعينها، لذلك فأن الأمر هو خارج إطار التنبؤ كما قد يراه البعض. إنما هو ، فقط، رؤية تخالف الرؤى التقليدية للأشياء من حولنا، وذلك من منطلق الشروع في تدمير تلك الأشياء وتفكيكها، ومحاولة إعادة بنائها وصياغتها وفق مفاهيم مغايرة، خارجة عن التابوات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وفي مقدمتها الدينية.

ولِدَ سبهان آدم في مدينة تقع في الشمال الشرقي السوري ( الحسكة )، في عائلةٍ غارقة في بساطة العيش، كمثل معظم سكان تلك المنطقة النائية.

لم يستهوه في ضغرَه ما يمكن أن يستهوي أي آخر من مجايليه، وقد أُتخِمَتْ ذاكرته بصور الحرب العراقية ـ الايرانية، في بدايات ثمانينيات القرن الماضي. وكان مردُّ ذلك، علاقته الحميمة بوالدته، تلك المرأة الريفية التي تعود بأصولها إلى العراق (الموصل ).

انجذب في بدايات شبابه إلى قراءة الشعر، وغامر في كتابته. ووقعت اختياراته في الاطلاع والقراءة على أسماء لشعراء مثل: أنسي الحاج، يوسف الخال، بول شاوول، شوقي أبي شقرا. فضلاً عن شعراء أجانب، عبر ترجمات عربية لبعض نتاجاتهم، مثل إيف بونفوا وغيره.

ولا زالت ذاكرة سبهان آدم تحتفظ بعناوين كتب الشعراء الذين سبق ذكرهم، وببعض المقاطع من شعرهم، لكنه تراجع عن الاستمرار في مغامرته الشعرية، بعد أن شَعَرَ بفشل في خلق حيزٍ مريح له ضمن دائرة الشعر، يجعله صاحب بصمة فيها. واستمرَّ في قراءة الشعر دون محاولة كتابته، ليقتحم في شكلٍ مفاجئ وصادم، عالم التشكيل الذي كان يفتقد ابجديته في شكلٍ كليٍّ وقتذاك.

حرص في أن يكون وفيَّاً لحالته الفطرية في الرسم، وابتعد عن كل ما هو مدرسي وأكاديمي في التشكيل، مكتفياً بمتابعة جزئية ـ في بداياته ـ لبعض النشاطات والمعارض التشكيلية التي كانت تقام في صالات العاصمة دمشق.

لم يسال أحداً كيف يرسم، ويرفض حتى اللحظة أن يرسم في حضور أحد، أو أن يعلن عن طقسه الخاص في انتاج اللوحة.

بدء خطوته الأولى في عالم التشكيل، بثقة وجرأة مطلقَين، ورسم ( كائنه) الخاص الأول، لتملأ السنوات بعد ذلك، عالمه بالآلاف منها، تسكن الآلاف من لوحاته المنتشرة في بلدان وعواصم العالم.

في فترة قصيرة نسبياً، استطاع سبهان آدم أن يكون رقماً صعباً وإشكاليّاً في الوسط التشكيلي السوري والعربي. وصارت تجربته التشكيليَّة التي تناولها النقّاد بكثافة واهتمام بالغَين في الصحافة العربية والعالمية، بعد معارض عديدة متقاربة زمنياً، في أهم الصالات في عدد من الدول الأوروبية، محل جدل ونقاش متصاعد لدى الأوساط الثقافية داخل سوريا وخارجها. تلك التجربة التي امتازت بالفرادة والجرأة الفائضة، من خلال خروجها المطلق عن كل المسارات المألوفة في الحركة التشكيلية السورية، وعن ملامحها المتكونة منذ بداياتها حتى الآن.

كما أن الجهد والسعي المتواصليَن، عبر انشغاله اليومي في انتاج اللوحات التشكيلية على مدى أكثر من عشرين عاماً مضت، دون أن يوقفه شيء عن ذلك، أو أن يعكِّر صفوَ ذلك أي شيء مهما بلغ من أهميَّة، وضعه في مقدمة قائمة الفنانين التشكيليين الأكثر انتاجاً، فضلاً عن كونه الأكثر مبيعاً.

يرفض سبهان آدم طلبات احتكار لوحاته من قبل أية جهة أو مؤسسة أو صالة تشكيلية، لأنه بذلك يحافظ على مساحة الحرية المطلوبة والضرورية في حياته المهنية، ويقطع الطريق أمام استغلاله من قِبَل " مافيات الفن وتجّاره " بحسب تعبيره الذي يحمل إشارة واضحة إلى أصحاب بعض الصالات التشكيلية التي تفرض عقوداً احتكارية على بعض الفنانين ليكونوا بمثابة البقرة الحلوب.

يضيف آدم في هذا الجانب: " حياتي محكومة ببذل طاقة يومية هائلة، وبتعب ذهني وجسدي لا يُحتمل،وهذا أحد أسباب نجاحي، ولايمكن أن أقبل بأن يمسّها أحد... أنا حرٌّ بقدر ما أعمل، وأعمل بقدر ما أنا حرّ، أبيع لوحتي لمن أشاء، وبالطريقة التي أشاء، خارج وصايات الآخر وشروطه، كائناً من يكون هذا الآخر ومهما تكن مغرياته ".

اصرار هذا الفنان على بقاءه خارج السرب، يضعه أمام التزامات وجهود أخرى إضافية، تبدأ من حيث تنتهي اللوحة. فيقوم فردياً بعمل (مؤسساتي) بكل ما يترتب على ذلك من جهد ووقت وتكاليف مالية كبيرة، كي يُحَصِّن به عمله الفني، عرضاً وترويجاً وبيعاً.

ويقْدِم على طباعة كتالوغات وكتب سنوية، ضخمة وأنيقة، توازي انتاجه الغزير وتوَّثق لوحاته، حتى تبدو وكأنها معارض دائمة ومتنقلة، الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من الفنانين في منطقتنا.

أهمية أعمال سبهان آدم التشكيلية، وفرادتها، وغرائبيتها، وسطوتها التي جذبت اهتمام النقاد ومهتمي ومتابعي الفن التشكيلي، دفعت بفئة من الجيل التشكيلي الجديد (في الداخل والخارج)، إلى أن تحذو حذوه في طريقة الرسم وبناء اللوحة وتكوينها، حتى بات يُطلق عليها اسم (السبهانيون).

يرفض سبهان آدم مغادرة دمشق، وهو الذي سبق وأن صال وجال في الكثير من بلدان العالم، برفقة (كائناته) خلال سنوات مضت.

تجده جالساً، كلّ مساء، على طاولة في زاوية المقهى البرازيلي في فندق الشام. متأملاً، أوغاضباً، أو يتجاذب أطراف حديث مقتضب مع أحدهم، أو مع النادل.

قد يفاجئك بضحكة هيستيريّة، تشبه البكاء، دون أن يسبقها اي حديث يبررها، وربما سبقها صوت قذيفة وقعت على مسافة ليست بعيدة.

في معرضه الجديد، المقام حالياً في صالة " آرت هاوس " بدمشق، تحت عنوان " لوحات جديدة "، يقَدِّم سبهان آدم ثلاثة وعشرون عملاً تشكيلياً جديداً من الحجم الكبير. وبذلك يضع ( كائناته) من جديد ، وجهاً لوجه، مع من يرغب النظر في عيونها، أو يفحص ملامحها، أو يسبر أغوار أرواحها، دون تردد أو قلق.