معارض باريسية تكشف أقزاماً وعمالقة في الفن العربي المعاصر


أسعد عرابي

معارض باريسية تكشف أقزاماً و عمالقة في الفن العربي

أسعد عرابي

تستوقفنا صالات عرض العاصمة الفرنسية بما يجري فيها من أحداث تشكيلية عربية (خلال الشهرين السادس و السابع الحاليين من عام 2005) تكشف أصالة الرياد" ما بعد الحداثية" لواحدة منها و حجم تزوير ذه الشراكة مع الفن العاصر العالمي بالنسبة إلى أخرى. 1- شريك إبداعي عربي جديد في الفن العالمي. سنبتدئ من الطرف المتفائل المتمثل في ظاهرة تدعى سبهان آدم تجتاح لوحاته أربعة مواقع هامة ضمن معارض متزامنة: (مركز أندريه مالرو ،غاليري إيدي دارتسيت و كابيني روي و فابريك) تتمحور جميعها حول العنوان: "الاسود و الذهبي" اكتشف عبقريته منذ ما يقرب العقد كل من صالح بركات (صالة أجيال بيروت) و المركز الثقافي الفرنسي في دمشق و عرضاه قبل أن يصل الصالات الباريسية و سواها.

تتسارع شهرة و قوة تعبير هذا الريفي التائه ( من مواليد الحسكة 1972) بطريقة انفجارية متجاوزا بعصاميته و حرمانه من أي تعليم شيوع باسيكا و كومباس وصل اعتراف بعض النقاد (غير العنصريين) اعتباره من أفضل تشخيصيي ما بعد الحداثة إلى جانب بازلتز. ليس من السهل أن يحتل الفنان اليوم موقعه المتميز ضمن حشد تيارات "ما بعد الحداثة" سبهان مثله مثل اللبناني نبيل شماس الذي أسس "الفراكتالزم، مذهب التشظي" في الولايات المتحدة الأمريكية يؤسس لشهادة عمودية زمانية غير مكرورة تستقي بصماتها من مخلفات الفن البكر و البدائي باحثاً عن أسطورة سحرية مغمسة بأقسى درجات اغتراب مجتمع العولمة و تدمير الكوكب و اندثار عناصره و أجناسه الحية نوع من الذاكرة السحرية الانطوائية لعله الوجه المتحرق من غروب الذات و الآخر و قيامة ما بعد قيامة يختزل في توحده العصابي أنواتاً من البش و الرعب و الغثيان المديد الذي يتجاوز حدود الموت و الانتحار و بقر البطون و الذبح الجماعي المجاني يتجاوز في تشاؤميته الابداعية و التخييلية حدود الهمود و الليبيدو الفرويدي و خدش النواهي و الإلماحات المثلية و سواها رافعاً الحدود في ذواته المخنثة بين الذكورة و الانوثة. رغم أن فنه متبرئ من الثقافة (خاصة التقنية) فهو نخبوي تأملي ففي الوقت الذي يستجيب فيه إلى غثيان العالم من تخمة إغراق التيارات بالمفاهيم و الاطروحات النقدية ففنه يظهر بصورة عفوي ة متأصلة من أرحام تاريخ الفن و لكن ضمن مسار مخاطر لا يقبل العودة خاصة و أن منهجه يعتمد على اللاذاكرة.

دعونا نراقب أحد العناصر الذي استعاره من مرحلة "أرلكان" لبيكاسو و بالذات التي صور فيها ( داخل السيرك) الرجل يجالس المكعب و المرأة ترقص على كرة. استعار سبهان نفس الكرة المعروفة بهندستها الخاصة ليقف عليها هو نفسه بطريقة متلبسة ملغزة غارقة في صحراء من الاحتدام البركاني للون الأحمر. تعانق بعض أعماله حشوداً و جماهير من المسوخ البشرية تستعيد انسحاقات "الانسان الصرصار" و كأنها قطيع يطارده عصر التلوث الإشعاعي و فيروسات " السيدا" و جنون البقر و سواها. كائنات متفحمة متأكسدة مسلوخة مستلبة الارادة. تتملص أشكاله و عناصره الاعتراضية من سجنها المحلي لتختنق في زنزانة الوجود العبثي و كأن الفضاء الدرامي على رحابته حبيس قمقم من القمع و الضجيج الروحي. قد تقتصر موضوعاته على كائن و حيد مختوم بحبال الشمع المؤسساتي الأحمر. كما هي صورة الحمار المعلق في غرفة تعذيب محلية و هكذا تبدو هواجسه الكابوسية مثل لون الهباب و السخام المنفحم الذي يستخدمه أشد رعباً من هول العالم العولمي.

بلكاهية- دلول

ابتلع تمايز تظاهرة سبهانأصداء معرض الثنائي" بلكاهية – دلول" الذي أقامه مدير المتحف ابراهيم العلوي في صالات "معهد العالم العربي" مكرساً الطباعات الزاهية و كتابين بالغي العناية و "سينوغرافية" باذخة، لا يجمع العارضين سوى علاقة التواطؤ مع العلوي فهما من جيلين متباعدين يكفي أن تتذكر دعوة بلكاهية للعمل على المواد البكر من جلود و حنه و نيله و استغراق الثاني في صقل مختبره التقني في مجال الطباعة و التصوير عمل دلول خلال سنوات طويلة متعهداً احتكارياً لصناعة إطارات المعارض في المعهد و عرض العلوي للاثنين عشرات المرات و اقتنى منهما للمتحف مرات عديدة و وزعهما في شتى التظاهرات المحلية و الأوربية كان آخرها إقحام رسوم دلول في (معرض المكتبة الوطنية عن تراث المخطوطات العربية) إلى جانب رسوم الواسطي.

أنا أعرف بلكاهيه منذ "حركة كازابلانكا" في الستينات في المغرب فإن دلول لم يعرف إلا كرجل أعمال و تسويق ما عدا رسومه لبعض كتب أدونيس ( متغنياً كالعادة بقلعة و صدقية شاعرنا الكبير أما أسلوبه فهو متماه في تجريدات غنائية أكل الدهر عليها و شرب منذ الستينات. و خاصة أنها فاقدة لأية نكهة لأنها خليط هحين من مجموعة تأثرات و اختلاسات بصرية. كان معرض يوسف عون الأخير في باريس فرصة لمراجعة واحد من استعارات دلول تقارن نصوص المعرض مع ذلك دلول برامبرانت من باب أنه مثله جمع المجد من طرفيه الحفر و التصوير. إذا عدنا إلى لوحات بلكاهية وجدنا يتحول من موضوعات الكف التعويذي و الأشكال الجنسية المستعارة من آرب و البربرية و الإفريقية إلى محاولة استثمار خرائط الإدريسي الجغرافية الشهيرة بقص حدودها بالجلود أو يرسمها بالحنة و النيلة بطريقة فولكلورية.

إن المشكلة الأشد خطورة من حدثية هذا المعرض الملفق هو أن الوصاية المركزية المزمنة للعلوي منذ ربع قرن. أي تاريخ تعيينه قبل تأسيس المعهد لأسباب سياسية و تسلمه سلطة مالية و إدارية و دبلوماسية مطلقة و إلغائه نظام لجان التحكيم في المعارض و المقتنيات و انفراده بأي قرار بما فيه التوظيف و النقل و التسريح . ذلك رغم مؤهلاته السلبية الصريحة ابتداء من عدم معرفته باللغة العربية (إلغائها من قسمه) و انتهاء بعدم حيازته شهادة تؤهله لإدارة متحف. مروراً بتواضع معرفته بالفنانين العرب و محترفاتهم الميدانية ( عدم حضوره مثلاً لأي معرض عربي في باريس) ثم اختزاله نشاطات القسم على بطانة محدودة من الهواة و النجوم الذين يهمهم تأمين مصالحهم وصلت ذراع سلطته اليوم للسيطرة و التدخل في أغلب التظاهرات العربية في أوربا و بعض دول الخليج بما فيه فرض رأيه على مقتنيات أصحاب المجموعات و التسويق. ثم و هو الأخطر محاولة تطويع المنابر النقدية و الصحفية العربية بشتى الوسائل.

لم يستطع هذا الحصار أن يخنق الأصوات الحرة من الفنانين و النقاد للاستمرار في انتقاد هذه الآلية الفردية( منها مقالات متتالية لجورج بهجوري و هو غيض من فيض) العديد من هؤلاء يطالبون بفتح ملف ربع قرن و المحاسبة و ليس قط تحديد صلاحياته (مثل المدير). إن الإمعان في عدم الإنصات إلى صوت هؤلاء يثبت أن عصر الديكتاتوريات العربية لا يزال بخير. (باريس)