ترجمان لليل الغريزة وللجسد الليلي


أدونيس

ترجمان لليل الغريزة وللجسد الليلي

مدارات يكتبها أدونيس

ترجمان لليل و الجسد الليلي

حول أعمال (سبهان آدم)

-1-

"يا آدم: أبعدني عن آدم" هذا هو الصوت الذي يكاد أن تسمعه يخرج من لوحات سبهان آدم فيما تنظر إليه.

-2-

لا يصور سبهان آدم وجه الانسان في سياق العبارة القرآنية: "أحسن تقويم" فهو لا يصور ما يراه بل ما يتخيله في الأشياء التي يراها كأن الوجه في رؤيته طين ممزوج بيدين واحد انسي و آخر وحشي و لا فصل في هذا الصرح بين ما يسمى سماء و ما يسمى أرضاً بين العقل و الغريزة بين الأعلى و الأدنى هكذا يجيء الوجه طالعا من هيروغليفية المخيلة كأنه يخرج من رحم الطبيعة في بدائيتها الأولى نقيضاً ل جمالية العقل و الشرع في آن و يكاد الوجه فيما نتأمله أن يهجم علينا خشناً غاضباً و يبدو أحياناً أنه ليس الا كتلة من اللحم تلتصق بكتلة اخرى تسمى الرأس و يبدو الرأس حيناً بعين واحدة و حيناً بأكثر من عينين أو بعين فوق أخرى في غير مكانها الطبيعي العادي و كأنه يلتصق هو الآخر بما يناسبه العنق الذي يلتصق بما يشبه الجسم و تخترق احيانا الكتلة التي تشبه جسم حيوان-صار غالباً أو جسم طير هدهد غالباً.

الانسان هذا هجين بدائياً فرأس الانسان ليس انسانياً إلا بنوع واحد من التأويل البصري و ليس الوجه و الحالة هذه "جميلاً" كوجه آدم و لا مماثلاً لصورة الله إنه اقرب ان يكون جزءا مصغرا من جبل او قطعة من صخرة أو شامة في جذع شجرة هكذا يخرب سبهان آدم مصطلحات التمثيل قاذفاً أشكاله الفنية في وسط من التساؤل و الشك و الحيرة و يخيل الينا كلما تأملنا في إحدى لوحاته، أن كارثة تكاد أن تقع.

-3-

لهذا التشويه تشويه الوجه و الرأس و الجسم غاية تتمثل في تحرير الانسان من الشكل الذي فرضته تقاليد الجمالية الدينية أعني تحريره من ضعفه الطبيعي و إضفاء قوة حيوانية عليه لا بقصد أن يذوب صورة الانسان في صورة الحيوان و إنما انفصال الانسان عن الشبه و الشبيه كأنه يقول لنا: شكل الانسان الطبيعي، إنما هو شكل غير طبيعي و علينا لكي نقرأ أولاً اللا-صورة أو شكلها المشوه. هكذا يجعل الشكل الانساني يتحرك في الذاكرة الحيوانية الأصلية كأنه يريد أن ينقح التحول في ثبات الأنواع، خارقاً نظام التعارض بين الانسان و الحيوان يجعل الجسم يغوص في البدائي الأولي يدخله في نظام آخر من الرؤية. مخرجاً إياه من لعب المشابهات. كأن الانسان حالة جسمية أكثر مما هو حالة عقلية تختفي "أنا" الجسم في شبكة الشكل و يبدو الانسان باحثا عن نفسه، يتساءل هل أنا أنا؟ خصوصاً عندما ينظر إلى وجهه فالوجه خاتم الشخص و هو خاتم مكسور بملامح كائنات غير انسانية. إنه محرف عن طبيعته الانسانية، مشوه يردنا إلى انسان غير طبيعي.

-4-

لهذا التشويه جمالية خاصة تتمثل في الاحتجاج، و التحريض و التمرد و العصيان. تتمثل كذلك في مزج الحياة بالرسم مزجاً عضوياً. اللوحة حياة، و الأنا كيان انساني-حيواني، إنه مزج يزعزع من جهة، حدود الهوية الذائبة في اللوحة، و يولد في الشكل من جهة ثانية قوة جديدة تتجاوز قوة الانسان المعهودة.

تتمثل هذه الجمالية اخيراً في بعد معرفي خاص، فالتشويه يولد فينا الرغبة لكي نحسن معرفة من نشوهه، و لكي نحسن المعرفة بأنفسنا، واذا تذكرنا أن التعبير الجسمي في المجتمع العربي- الاسلامي مراقب، منظم مغترب، ندرك كيف أن التشويه يبرز الممنوع، المكبوت و كيف يشارك في قلب القيم و المبادئ بحيث يصبح الداخل خارجاً، و الأعلى أدنى، و الأمام الوراء، خالقاً في هذا كله فضاء رمزياً.

-5-

يبدو سبهان آدم في رؤيته الفنية و في تجربته غريباً عن الثقافة العربية الإسلامية السائدة، كأنه "جدي على ثدي" وفقاً لعبارة المعري، او كأنه فارس يمتطي الحشرات حيناً و الظباء حيناً أو يتزوج غولةً حيناً آخر وفقاً لتعبير الحكم بن عمرو البهراني متوحداً منفرداً كأنه غرفة بلا نوافذ، كما قال مرة يصف حياته فلا يصدر ف فمه عن "الثقافة العالمية" و إنما يصدر على العكس عن الثقافة ما قبل العالمية، عن كل ما هو خام محض بلا حذر بلا رقابة ذاتية، خارج كل تأثير مدني إنه يفكر و يرسم كما يتخيل و يحلم بذاته لذاته داخل ذاته أو لنقل كان في شخص سبهان آدم ملاكاً شيطانياً أو شيطاناً ملائكياً يوزع نفسه في الكائنات التي يرسمها معرضاً إياها لتخرج مما هي. إن فنه مسائلة للإنسان و العالم و مسائلة للفن ذاته و علاقاته بالوجود و هو يتخطى بقوة هذه المسائلة أصولاً و قواعد و تحديدات ثقافية و دينية تعقد الحياة، و تسجن الفرد داخل هوية جمعية جاهزة إنه يزيل الأسطورة الخاصة بخلق الانسان أعني بخلقه المستقل كما يعلم الدين كأنه يريد أن يخلق آدم آخر "كائناً آخر" أباً عدمياً جهنمياً في وحدة لا تتجزأ.

هكذا يبدو فن سبهان آدم دليلاً على فردانية كلية و شديدة الخصوصية و على الخصوصية و على الخروج من وحدة الجماعة أو الأمة إلى الهامش الأقصى مؤثراً السديم على النظام، كأنه مسكون دون أن يدري بإثنولوجي و انثروبولوجي و محلل نفسي في آن، إنه انفجار في الأحشاء التي تكون تاريخ الفن العربي- الاسلامي، إنه بعده الغريزي و ترجمات شفويته.

-6-

لا أعترف بما أعرفه يقول لنا فن سبهان آدم و ترجمة تلك فنياً هي "لا أمثل" ما أراه و لإن كانت كلمة مثل تعني إظهار الشيء الذي "يمثل" في مظهره الكامل، فإنها تعني بالنسبة إليه، إعادة تكوينه في حقيقته الأصلية الكاملة. فلا تكمن قوته على الكشف و على الإشارة إلى الغامض الملتبس في هذه القصبة النحيلة الهشة الانسان وفقاً لتعبير باسكال و هي قضية تنهض بين أعشاب سود تنبت في حقل غامض أعشاب الحاسة و التوهم و تلك الأعشاب التي لا تتحرك إلا في ريح الخفاء و الكبت و يتحرك الفنان هنا في المسافة الخطرة التي تمتد بين تحريم الإفصاح و شهوة اختراق هذا التحريم بين ما يثبته الدين حلالاً و ما تثبته الرغبة حرية، بين ما تؤمن به الجماعة و ما تقتضيه الحرية الفردية من خرق لهذا الإيمان و هو إذ يختار الإفصاح عن القوى الخفية، فلأنها لا ترتبط بالدقة التمثيلية للصورة، و إنما ترتبط بالفاعلية اللا عقلانية. إنه يعود إلى المكبوت، فاصلاً بين الفن و الأخلاق غائصاً في مناطق النفس الأكثر غموضاً و الأكثر تعقيداً. إنه ضد الفصاحة، فصاحة التلوين و التشكيل. و طريقه في الرسم ميتافيزيقية مع أنها تبدو شديدة الارتباط بالواقع. إنه الطفولة لاهية بحبر ما قبل العقل. و مرسمه هو مرسم الليل الجسدي.

هكذا تكشف تجربة سبهان أدم عن ازمة تمثيل الواقع داخل الثقافة الإسلامية العربية و بخاصة في جوانبها الدينية تكشف على الأخص عن أزمة التعبير عن الانسان في كل ما تكتبه السيطرة العقلية و ما يفلت من محدودية العقل. و في هذا يصعب التصديق أن سبهان يأتي من ثقافة دينية ينظمها الشرع اجتماعياً و أخلاقياً و يتبعها القعل أمراً باتباعها إنه يخلق واقعا آخر في قلب هذه الثقافة و على النقيض من قيمها كأنه يطلب من العين ألا تكتفي بمجرد الرؤية فكثيرا ما يحجب العمل مجرد الاكتفاء بالرؤية، يطالب العين أن تقرأ العمل فيما تراه و ان تكتبه مخرجة إياه من نظام الثقافة العالمة إلى نظام الجسد و أبجديته المطموسة ربما لهذا تشع من لوحاته طاقة حياتية غاضبة مشيرة إلى ما تنطوي عليه من غوامض و أسرار فهي تتطابق مع حالة الوعي يمكن أن تسميه حكمة الشرع ضلالاً أو نوعاً من الضلال و هو يتمرد على هذه الحكمة عائداً إلى جذر الحاسة و تحطيم مبدأ التماثل و فردانية اللعب الرمزي يتمرد بمرارة و سخرية و حس تراجيدي كأنه يصرخ مكرراً: يا آدم أبعدني عن آدم.

-7-

أشعر فيما أنظر إلى أعمال سبهان آدم كأنني أسمع الجسد العربي يقول: هوذا أخرج من هويتي التي أعطتني إياها حكمة الشرع عائداً إلى البدء الآدمي بحثاً عن هوية أخرى في تكوين آخر.

(باريس أواخر 2004)


النص العربي للمقدمة التي كتبها ادونيس للكاتالوغ الخاص بالفنان السوري سبهان آدم و الذي صدر بالفرنسية عن "دار فراغمان" في باريس، بمبادرة من السيدة دومينيك- بولاد- هاردوان مديرة غاليري "ايدي آرتيست" و ذلك لمناسبة المعرض الذي أقامته له في صالتها الخاصة و المعارض الأخرى التي أشرفت على إقامتها في أماكن أخرى من العاصمة الفرنسية و تستمر بتنظيم هذه المعارض حتى 8 ايلول (سبتمبر) المقبل.